الأحد، 6 أبريل 2014

مقال / المعــ ج ـــزة .

مقال / المعــ ج ـــزة .

_______________

للدكتور . مصطفى محمود .

___________________

 

هل تصدق أن الأرض التي تقف عليها ، ويخيل إليك أنها ثابتة تنطلق في الفضاء بسرعة 65000 ميل في الساعة ، أي ألف ضعف سرعة أوتوبيس سريع . وأنها مجرد فرد بين أفراد مجموعة شمسية تدور كلها حول الشمس؟!
وأن المجموعة الشمسية كلها ما هي إلّا واحدة من عدة مجموعات تؤلف فيما بينها مدينة كبيرة اسمها المجرة تضم أكثر من مائة ألف مليون نجم تدور كما تدور عجلة هائلة حول نفسها في الفضاء.

وأن الشمس تقطع الدورة الواحدة حول هذه المجرة في ثلاثمائة مليون سنة، علماً بأنها تجري بسرعة 720000 ميل في الساعة أي عشرة آلاف ضعف سرعة الإكسبريس؟!
وأن المجرة ليست إلّا واحدة من عدد عديد من المدن النجمية كلها سابحة في الفضاء ..وعندنا من هذه المدن النجمية مليونا مدينة كل منها مثل المجرة حجماً وضخامةً ..وكل منها تبعد عن الأخرى بمسافات هائلة شاسعة تبلغ من بعدها أن رسالة لاسلكية مرسلة من مدينة نجمية إلي أخرى تحتاج إلي ستة ملايين من السنين لتصل ويصل ردها ..أي أن ردها يصل بعد انقضاء ستين ألف جيل من الأجيال البشرية .
وأقصي هذه المدن النجمية المرئية تبلغ من بعدها عنا أن ضوءها يستغرق 140 مليون سنة ضوئية ليصل إلينا ( الضوء يقطع في السنة الضوئية 6 ملايين مليون ميل ).
ولقد أثبت أينشتين أن هذا الفضاء الكوني الهائل الذي تجري فيه كل هذه الكواكب والنجوم محدب ..وأن شكله منحن ..وأنه ينحني على نفسه ويتكور كما يتكور سطح الأرض ..وأنه أشبه شيء بفقاعة صابون هائلة في غشائها الرقيق ، توجد جميع المدن النجمية سابحة سائحة في دورة مستمرة.

وأن هذه الفقاعة الكونية في حالة تمدد مستمر والنجوم تجري مبتعدة عنا في سرعات خيالية ..والضوء يستغرق في ساحته حول محيط هذا الفضاء الخرافي 50000 مليون سنة ليكمل دورة واحدة . ولكن لأن تمدد الكون أسرع من سرعة الضوء ، فإن شعاع الضوء الذي يخرج من المدن النجمية علي أطراف الكون لا ولن يصل إلي عيوننا إطلاقاً .. ولن تحيط أبصارنا بأطراف المعمورة الكونية لأنها تتمدد بسرعة أكبر من أن يلحق بها الضوء وينقلها إلى حواسنا ، فنحن محكوم علينا بألا نراها.

وفي الحسابات الفلكية الأخيرة مجموع مادة الكون التي أمكن رؤيتها أو استنتاجها تبلغ تقريباً مقدار 11000 مليون مليون مليون شمس.
وفي الكون من النجوم ما يفوق حبات الرمال في الصحاري عدداً .. ومتوسط حجم كل نجم حوالي مليون مرة حجم الأرض .
وبعض هذه النجوم مثل نجم الجبار حجمه أكبر من الشمس 25 مليون مرة.
وليس معنى ذلك أن الكون مزدحم بالنجوم ، فالحقيقة أن الكون مخلخل جداً وأغلبه فضاء خلاء .. وثلاث نحلات تائهة في فضاء أوروبا أكثر ازدحاماً من النجوم في فضاء الكون.

والكون يفقد مادته باستمرار .. ويفنى .. ويبرد شيئاً فشيئاً والشمس تفقد كل يوم 350000 مليون طن من وزنها يتحول إلي أشعة . وهي لهذا تضمر وتنطفئ رويداً رويداً .. وتضعف جاذبيتها علي كواكبها وسياراتها ، فتنطلق هذه متباعدة عنها.
وفي الفضاء البعيد تبلغ درجة البرودة 480 درجة تحت الصفر .. الزمهرير .. وهي درجة تتجمد فيها كل السوائل.. وكل الغازات ..

هل أصابك الدوار من تخيل هذه الأرقام ؟! هل أصابك الهلع وأنت تتصور مكانك في هذا التيه المخيف كذرة من اللاشيء فوق هباءة تافهة اسمها الكرة الأرضية ، بين ملايين ملايين الملايين من النجوم المردة والسدم العملاقة والمدن الفلكية الجبارة السابحة في فضاء غريب منحن كفقاعة حول العدم ؟!
هل أغمضت عينيك وغبت عن وعيك وأنت تعد وتعد ..وتتصور هذه المتاهات العجيبة ؟

لقد نسيت ما هو أعجب من هذه الإحصائية كلها .. نسيت عقلك..
إن عقلك .. يفوق كل هذه المتاهات ..لأنه وسعها .. واحتواها في مداركه .. عقلك أدرك الكون .. وتفوق علي الكون لأنه أدرك نفسه أيضاً.
والعبرة ليست بالأحجام ..فكل حاملات الوراثة (الجينات) في جميع المخلوقات البشرية منذ آدم إلي الآن لا تملأ فنجاناً، ومع هذا فهي علي ضآلتها تحتوي على كل الخصائص التي أنتجت الآداب والفنون والحضارات بكل تصانيفها وحوادثها وفيها مستقر المواهب والعبقريات والنبوءات والفاعليات البشرية بكل خيرها وشرها . والذرّة علي صغرها فيها طاقة تهدم جبلاً.
وبالمثل لا اعتبار للأطوال الزمنية .. فرب لحظة واحدة مليئة يحدث فيها من الأحداث ما تنوء به السنون الطوال .

القيم لا تقدر بالموازين والمكاييل ولا تقاس بالأطوال.
ومستقر القيم في وجدان ذلك الإنسان الذي يخيل إليك أنه شيء تافه حينما تقيسه إلى الكون.
معيار الحقيقة وصورتها في قلبه. المثل العليا في خياله. المستقبل رؤيا من رؤاه. الحب والأمل والحربة وأحلامه. قدس الأقداس روحه اللانهاية بين جنبيه.
الهوة التي في داخله أعمق من الكون بما يحتويه من نجوم وأفلاك .. فهي هوة بلا قاع ..وبلا سقف ..غير محدودة ، غير متحيزة في مكان .. غير ممتدة في زمان .. وإنما هي ديمومة .. وحضور شعوري .. أشبه بالحضور الأبدي.
فهو يعيش في آنية دائمة .. يعيش في الآن دواماً .. وينتقل من آن إلى آن .. وكأنه يمشي علي وهم .. كل خدع الحواس .. كل صور العالم الفاني حوله لا تهمه .. كل التغييرات التي تكتنف العالم المادي لا تنطلي عليه .. فهو يستشعر نوعاً غامضاً من الاستمرار.

إحساسه بكيانه يلازمه طوال الوقت ، فلا يكاد يشعر بأن هناك وقتا إلّا حينما ينظر مصادفة إلي ساعة معصمه .. أو حينما يفطن إلى انصرام النهار حوله ..
إحساسه الداخلي يصور له ديمومة مستمرة. وعيه الداخلي ينظر دواماً إلي الأشياء وكأنه من معدن آخر غير معدنها . معدن دائم لا يجري عليه حادث الزمان والفناء .. فهو موجود ليس له بداية .. وليس له نهاية .. وفي الأحلام حينما تحمله أجنحة الوهم إلي الأماكن البعيدة التي لم يضع فيها قدماً يخيل له أنه رآها من قبل ..وأنه كان هناك .
وفي لحظات الصفاء .. يحس كأنما يستشف الغيب .. ويحدس المستقبل وكأنما كان في ذلك المستقبل .. كأنه كان يضع قدمه هناك في الغيب المحجب.

كل حواجز الزمن تسقط في مجال رؤيته الروحية ، فيري في لمحات الإلهام عبر هذه الحواجز .. وكأنما انفتحت له طاقة يطل منها على الحقيقة الأبدية .
ولكنها لمحات .. مجرد لمحات كومض البرق الخاطف .. لا يكاد يطل منها حتي يعود حجب الزمان والمكان ، فتسدل كثيفة علي عينيه ، وتشمله آلية الواقع وتلقي به إلي هوة التكرار وكأنه أصبح واحداً من هذه الذرات المادية .. أو الأجرام الفلكية التي تدور في عماء في مجالاتها المرسومة بلا إرادة لتكرر دورة مقدرة لها ولا فكاك منها .. وتقعد به غلظة المادة .. وكأنها المرض يجعل كل شيء فيه ثقيلاً .. غليظاً...
هذا هو الإنسان العجيب الذي يجمع بين صفات المادة .. وبين صفات الروح .. هذا هو الإنسان المعجز اللغز الذي يثيرني أكثر مما تثيرني كل هذه الملايين من النجوم والأكوان المترامية.

هناك في حشوته الحية تحت عظام رأسه .. في جمجمته وقلبه .. وفي نبضاته .. وفي وجيف أعصابه .. يكون السر الأعظم الذي تتضاءل إلي جواره كل هذه الأكوان .. وكل هذه الذرّات التي تدور في عماء الآلية والتكرار.

المصدر : كتاب / يوميات نص الليل .. للـدكتور . مصطفى محمود

0 التعليقات:

إرسال تعليق