الخميس، 7 فبراير 2013

المجموعة الأولى من المقالات الكاملة للدكتور . مصطفى محمود

المقال الأول

مقال / المعــ ج ـــزة .

_______________

للدكتور . مصطفى محمود .

___________________

من كتاب / يوميات نص الليل .

____________________

هل تصدق أن الأرض التي تقف عليها ، ويخيل إليك أنها ثابتة تنطلق في الفضاء بسرعة 65000 ميل في الساعة ، أي ألف ضعف سرعة أوتوبيس سريع . وأنها مجرد فرد بين أفراد مجموعة شمسية تدور كلها حول الشمس؟!
وأن المجموعة الشمسية كلها ما هي إلّا واحدة من عدة مجموعات تؤلف فيما بينها مدينة كبيرة اسمها المجرة تضم أكثر من مائة ألف مليون نجم تدور كما تدور عجلة هائلة حول نفسها في الفضاء.

وأن الشمس تقطع الدورة الواحدة حول هذه المجرة في ثلاثمائة مليون سنة، علماً بأنها تجري بسرعة 720000 ميل في الساعة أي عشرة آلاف ضعف سرعة الإكسبريس؟!
وأن المجرة ليست إلّا واحدة من عدد عديد من المدن النجمية كلها سابحة في الفضاء ..وعندنا من هذه المدن النجمية مليونا مدينة كل منها مثل المجرة حجماً وضخامةً ..وكل منها تبعد عن الأخرى بمسافات هائلة شاسعة تبلغ من بعدها أن رسالة لاسلكية مرسلة من مدينة نجمية إلي أخرى تحتاج إلي ستة ملايين من السنين لتصل ويصل ردها ..أي أن ردها يصل بعد انقضاء ستين ألف جيل من الأجيال البشرية .
وأقصي هذه المدن النجمية المرئية تبلغ من بعدها عنا أن ضوءها يستغرق 140 مليون سنة ضوئية ليصل إلينا ( الضوء يقطع في السنة الضوئية 6 ملايين مليون ميل ).
ولقد أثبت أينشتين أن هذا الفضاء الكوني الهائل الذي تجري فيه كل هذه الكواكب والنجوم محدب ..وأن شكله منحن ..وأنه ينحني على نفسه ويتكور كما يتكور سطح الأرض ..وأنه أشبه شيء بفقاعة صابون هائلة في غشائها الرقيق ، توجد جميع المدن النجمية سابحة سائحة في دورة مستمرة.

وأن هذه الفقاعة الكونية في حالة تمدد مستمر والنجوم تجري مبتعدة عنا في سرعات خيالية ..والضوء يستغرق في ساحته حول محيط هذا الفضاء الخرافي 50000 مليون سنة ليكمل دورة واحدة . ولكن لأن تمدد الكون أسرع من سرعة الضوء ، فإن شعاع الضوء الذي يخرج من المدن النجمية علي أطراف الكون لا ولن يصل إلي عيوننا إطلاقاً .. ولن تحيط أبصارنا بأطراف المعمورة الكونية لأنها تتمدد بسرعة أكبر من أن يلحق بها الضوء وينقلها إلى حواسنا ، فنحن محكوم علينا بألا نراها.

وفي الحسابات الفلكية الأخيرة مجموع مادة الكون التي أمكن رؤيتها أو استنتاجها تبلغ تقريباً مقدار 11000 مليون مليون مليون شمس.
وفي الكون من النجوم ما يفوق حبات الرمال في الصحاري عدداً .. ومتوسط حجم كل نجم حوالي مليون مرة حجم الأرض .
وبعض هذه النجوم مثل نجم الجبار حجمه أكبر من الشمس 25 مليون مرة.
وليس معنى ذلك أن الكون مزدحم بالنجوم ، فالحقيقة أن الكون مخلخل جداً وأغلبه فضاء خلاء .. وثلاث نحلات تائهة في فضاء أوروبا أكثر ازدحاماً من النجوم في فضاء الكون.

والكون يفقد مادته باستمرار .. ويفنى .. ويبرد شيئاً فشيئاً والشمس تفقد كل يوم 350000 مليون طن من وزنها يتحول إلي أشعة . وهي لهذا تضمر وتنطفئ رويداً رويداً .. وتضعف جاذبيتها علي كواكبها وسياراتها ، فتنطلق هذه متباعدة عنها.
وفي الفضاء البعيد تبلغ درجة البرودة 480 درجة تحت الصفر .. الزمهرير .. وهي د رجة تتجمد فيها كل السوائل.. وكل الغازات ..

هل أصابك الدوار من تخيل هذه الأرقام ؟! هل أصابك الهلع وأنت تتصور مكانك في هذا التيه المخيف كذرة من اللاشيء فوق هباءة تافهة اسمها الكرة الأرضية ، بين ملايين ملايين الملايين من النجوم المردة والسدم العملاقة والمدن الفلكية الجبارة السابحة في فضاء غريب منحن كفقاعة حول العدم ؟!
هل أغمضت عينيك وغبت عن وعيك وأنت تعد وتعد ..وتتصور هذه المتاهات العجيبة ؟

لقد نسيت ما هو أعجب من هذه الإحصائية كلها .. نسيت عقلك..
إن عقلك .. يفوق كل هذه المتاهات ..لأنه وسعها .. واحتواها في مداركه .. عقلك أدرك الكون .. وتفوق علي الكون لأنه أدرك نفسه أيضاً.
والعبرة ليست بالأحجام ..فكل حاملات الوراثة (الجينات) في جميع المخلوقات البشرية منذ آدم إلي الآن لا تملأ فنجاناً، ومع هذا فهي علي ضآلتها تحتوي على كل الخصائص التي أنتجت الآداب والفنون والحضارات بكل تصانيفها وحوادثها وفيها مستقر المواهب والعبقريات والنبوءات والفاعليات البشرية بكل خيرها وشرها . والذرّة علي صغرها فيها طاقة تهدم جبلاً.
وبالمثل لا اعتبار للأطوال الزمنية .. فرب لحظة واحدة مليئة يحدث فيها من الأحداث ما تنوء به السنون الطوال .

القيم لا تقدر بالموازين والمكاييل ولا تقاس بالأطوال.
ومستقر القيم في وجدان ذلك الإنسان الذي يخيل إليك أنه شيء تافه حينما تقيسه إلى الكون.
معيار الحقيقة وصورتها في قلبه. المثل العليا في خياله. المستقبل رؤيا من رؤاه. الحب والأمل والحربة وأحلامه. قدس الأقداس روحه اللانهاية بين جنبيه.
الهوة التي في داخله أعمق من الكون بما يحتويه من نجوم وأفلاك .. فهي هوة بلا قاع ..وبلا سقف ..غير محدودة ، غير متحيزة في مكان .. غير ممتدة في زمان .. وإنما هي ديمومة .. وحضور شعوري .. أشبه بالحضور الأبدي.
فهو يعيش في آنية دائمة .. يعيش في الآن دواماً .. وينتقل من آن إلى آن .. وكأنه يمشي علي وهم .. كل خدع الحواس .. كل صور العالم الفاني حوله لا تهمه .. كل التغييرات التي تكتنف العالم المادي لا تنطلي عليه .. فهو يستشعر نوعاً غامضاً من الاستمرار.

إحساسه بكيانه يلازمه طوال الوقت ، فلا يكاد يشعر بأن هناك وقتا إلّا حينما ينظر مصادفة إلي ساعة معصمه .. أو حينما يفطن إلى انصرام النهار حوله ..
إحساسه الداخلي يصور له ديمومة مستمرة. وعيه الداخلي ينظر دواماً إلي الأشياء وكأنه من معدن آخر غير معدنها . معدن دائم لا يجري عليه حادث الزمان والفناء .. فهو موجود ليس له بداية .. وليس له نهاية .. وفي الأحلام حينما تحمله أجنحة الوهم إلي الأماكن البعيدة التي لم يضع فيها قدماً يخيل له أنه رآها من قبل ..وأنه كان هناك .
وفي لحظات الصفاء .. يحس كأنما يستشف الغيب .. ويحدس المستقبل وكأنما كان في ذلك المستقبل .. كأنه كان يضع قدمه هناك في الغيب المحجب.

كل حواجز الزمن تسقط في مجال رؤيته الروحية ، فيري في لمحات الإلهام عبر هذه الحواجز .. وكأنما انفتحت له طاقة يطل منها على الحقيقة الأبدية .
ولكنها لمحات .. مجرد لمحات كومض البرق الخاطف .. لا يكاد يطل منها حتي يعود حجب الزمان والمكان ، فتسدل كثيفة علي عينيه ، وتشمله آلية الواقع وتلقي به إلي هوة التكرار وكأنه أصبح واحداً من هذه الذرات المادية .. أو الأجرام الفلكية التي تدور في عماء في مجالاتها المرسومة بلا إرادة لتكرر دورة مقدرة لها ولا فكاك منها .. وتقعد به غلظة المادة .. وكأنها المرض يجعل كل شيء فيه ثقيلاً .. غليظاً...
هذا هو الإنسان العجيب الذي يجمع بين صفات المادة .. وبين صفات الروح .. هذا هو الإنسان المعجز اللغز الذي يثيرني أكثر مما تثيرني كل هذه الملايين من النجوم والأكوان المترامية.

هناك في حشوته الحية تحت عظام رأسه .. في جمجمته وقلبه .. وفي نبضاته .. وفي وجيف أعصابه .. يكون السر الأعظم الذي تتضاءل إلي جواره كل هذه الأكوان .. وكل هذه الذرّات التي تدور في عماء الآلية والتكرار.

رابط هذا المقال على صفحة الفيس بوك من هنا

___________________

 

المقال الثاني .


الفصل السادس / وحكاية الإسلام مع المرأة ؟

__________________________


للدكتور . مصطفى محمود .

________________


من كتاب / حوار مع صديقي المُلحـِد .


______________________




قال صديقي الدكتور:

- ألا توافقني أن الإسلام كان موقفه رجعياً مع المرأة ؟

وبدأ يعد على أصابعه ..

- حكاية تعدد الزوجات وبقاء المرأة في البيت .. والحجاب والطلاق في يد الرجل .. والضرب والهجر في المضاجع .. وحكاية ما ملكت أيمانكم .. وحكاية الرجال قوامون على النساء .. ونصيب الرجل المضاعف في الميراث.

قلت له وأنا أستجمع نفسي:

التهم هذه المرة كثيرة .. والكلام فيها يطول .. ولنبدأ من البداية .. من قبل الإسلام .. وأظنك تعرف تماماً أن الإسلام جاء على جاهلية ، والبنت التي تولد نصيبها الوأد والدفن في الرمل ، والرجل يتزوج العشرة والعشرين ويُكره جواريه على البغاء ويقبض الثمن .. فكان ما جاء به الإسلام من إباحة الزواج بأربع تقييداً وليس تعديداً .. وكان إنقاذ للمرأة من العار والموت والاستعباد والمذلة.

وهل المرأة الآن في أوروبا أسعد حالاً في الانحلال الشائع هناك وتعدد العشيقات الذي أصبح واقع الأمر في أغلب الزيجات أليس أكرم للمرأة أن تكون زوجة ثانية لمن تحب .. لها حقوق الزوجة واحترامها من أن تكون عشيقة في السر تختلس المتعة من وراء الجدران.

ومع ذلك فالإسلام جعل من التعدد إباحة شبه معطلة وذلك بأن شرط شرطاً صعب التحقيق وهو العدل بين النساء.

( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ) ..

.

( وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً )

فنفى قدرة العدل حتى عن الحريص فلم يبق إلا من هو أكثر من حريص كالأنبياء والأولياء ومن في دربهم.
 
أما البقاء في البيوت فهو أمر وارد لزوجات النبي باعتبارهن مُثلاً عُليا.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ).

وهي إشارة إلى أن الوضع الأمثل للمرأة هي أن تكون أُماً وربة بيت تتفرغ لبيتها ولأولادها ويمكن أن نتصور حال أمة نساؤها في الشوارع والمكاتب وأطفالها في دور الحضانة والملاجيء .. أتكون أحسن حالاً أو أمة النساء فيها أمهات وربات بيوت والأطفال فيها يتربون في حضانة أمهاتهم والأسرة فيها متكاملة الخدمات.

الرد واضح.

ومع ذلك فالإسلام لم يمنع المقتضيات التي تدعو إلى خروج المرأة وعملها .. وقد كانت في الإسلام فقيهات وشاعرات .. وكانت النساء يخرجن في الحروب .. ويخرجن للعلم.

إنما توجهت الآية إلى نساء النبي كمُثل عُليا ، وبين المثال والممكن والواقع درجات متعددة وقد خرجت نساء النبي مع النبي في غزواته

وينسحب على هذا أن الخروج لمعونة الزوج في كفاح شريف هو أمر لا غبار عليه.

أما الحجاب فهو لصالح المرأة.

وقد أباح الإسلام كشف الوجه واليدين وأمر بستر ما عدا ذلك.

ومعلوم أن الممنوع مرغوب وأن ستر مواطن الفتنة يزيدها جاذبية .

وبين القبائل البدائية وبسبب العري الكامل يفتر الشوق تماماً وينتهي الفضول ونرى الرجل لا يخالط زوجته إلّا مرة في الشهر وإذا حملت قاطعها سنتين.

وعلى الشواطيء في الصيف حينما يتراكم اللحم العاري المباح للعيون يفقد الجسم العريان جاذبيته وطرافته وفتنته ويصبح أمراً عادياً لا يثير الفضول.

ولا شك أنه من صالح المرأة أن تكون مرغوبة أكثر وألّا تتحول إلى شيء عادي لا يثير.

أما حق الرجل في الطلاق فيقابله حق المرأة أيضاً على الطرف لآخر فيمكن للمرأة أن تطلب الطلاق بالمحكمة وتحصل عليه إذا أبدت المبررات الكافية.

ويمكن للمرأة أن تشترط الاحتفاظ بعصمتها عند العقد .. وبذلك يكون لها حق الرجل في الطلاق.

والإسلام يعطي الزوجة حقوقاً لا تحصل عليها الزوجة في أوروبا فالزوجة عندنا تأخذ مهراً .. وعندهم تدفع دوطة ..والزوجة عندنا لها حق التصرف في أملاكها .. وعندهم تفقد هذا الحق بمجرد الزواج ويصبح الزوج هو القيّم على أملاكها .

أما الضرب والهجر في المضاجع فهو معاملة المرأة الناشز فقط .. أما المرأة السويّة فلها عند الرجل المودة والرحمة.

والضرب والهجر في المضاجع من معجزات القرآن في فهم النشوز .. وهو يتفق مع أحدث ما وصل إليه علم النفس العصري في فهم المسلك المرضي للمرأة.

وكما تعلم يقسم علم النفس هذا المسلك المرضي إلى نوعين:

" المسلك الخضوعي " وهو ما يسمى في الاصطلاح العلمي "masochism ماسوشزم " وهو تلك الحالة المرضية التي تتلذذ فيها المرأة بأن تضرب وتعذب وتكون الطرف الخاضع.

والنوع الثاني هو:

" المسلك التحكمي " وهو ما يسمى في الاصطلاح العلمي "sadism سادزم" وهو تلك الحالة المرضية التي تتلذذ فيها المرأة بأن تتحكم وتسيطر وتتجبر وتتسلط وتوقع الأذى بالغير.

ومثل هذه المرأة لا حل لها سوى انتزاع شوكتها وكسر سلاحها الذي تتحكم به ، وسلاح المرأة أنوثتها وذلك بهجرها في المضجع فلا يعود لها سلاح تتحكم به..

أما المرأة الأخرى التي لا تجد لذتها إلا في الخضوع والضرب فإن الضرب لها علاج .. ومن هنا كانت كلمة القرآن:

( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ).

إعجازاً علمياً وتلخيصاً في كلمتين لكل ما أتى به علم النفس في مجلدات عن المرأة الناشز وعلاجها.

أما حكاية " ما ملكت أيمانكم " التي أشار إليها السائل فإنها تجرنا إلى قضية الرق في الإسلام .. واتهام المستشرقين للإسلام بأنه دعا إلى الرق .. والحقيقة أن الإسلام لم يدع إلى الرق .. بل كان الدين الوحيد الذي دعا إلى تصفية الرق.

ولو قرأنا الإنجيل .. وما قاله بولس الرسول في رسائله إلى أهل افسس وما أوصى به العبيد لوجدناه يدعو العبيد دعوة صريحة إلى طاعة سادتهم كما الرب.

" أيها العبيد .. أطيعوا سادتكم بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما الرب. "

ولم يأمر الإنجيل بتصفية الرق كنظام وإنما أقصى ما طالب به كان الأمر بالمحبة وحسن المعاملة بين العبيد وسادتهم.

وفي التوراة المتداولة كان نصيب الأحرار أسوأ من نصيب العبيد .. ومن وصايا التوراة أن البلد التي تستسلم بلا حرب يكون حظ أهلها أن يساقوا رقيقاً وأسارى والتي تدافع عن نفسها بالسيف ثم تستسلم يُعرَض أهلها على السلاح ويقتل شيوخها وشبابها ونساؤها وأطفالها ويُذبَحوا تذبيحاً.

كان الاسترقاق إذاً حقيقة ثابتة قبل مجيء الإسلام وكانت الأديان السابقة توصي بولاء العبد لسيده.

فنزل القرآن ليكون أول كتاب سماوي يتكلم عن فك الرقاب وعتق الرقاب.

ولم يحرم القرآن الرق بالنص الصريح .. ولم يأمر بتسريح الرقيق .. لأن تسريحهم فجأة وبأمر قرآني في ذلك الوقت وهم مئات الآلاف بدون صناعة وبدون عمل اجتماعي وبدون توظيف يستوعبهم كان معناه كارثة اجتماعية وكان معناه خروج مئات الألوف من الشحاذين في الطرقات يستجدون الناس ويمارسون السرقة والدعارة ليجدوا اللقمة ، وهو أمر أسوأ من الرق ، فكان الحل القرآني هو قفل باب الرق ثم تصفية الموجود منه .. وكان مصدر الرق في ذلك العصر هو استرقاق الأسرى في الحروب فأمر القرآن بأن يطلق الأسير أو تؤخذ فيه فدية وبأن لا يؤخذ الأسرى أرقاء.

( فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ).

فإما أن تَمُنّ على الأسير فتطلقه لوجه الله .. وإما تأخذ فيه فدية.

أما الرقيق الموجود بالفعل فتكون تصفيته بالتدرج وذلك بجعل فك الرقاب وعتق الرقاب كفّارة للذنوب صغيرها وكبيرها وبهذا ينتهي الرق بالتدريج.

وإلى أن تأتي تلك النهاية فماذا تكون معاملة السيد لما ملكت يمينه .. أباح له الإسلام أن يعاشرها كزوجته.

وهذه حكاية " ما ملكت أيمانكم " التي أشار إليها السائل ولا شك أن معاشرة المرأة الرقيق كالزوجة كان في تلك الأيام تكريماً لا هانة.

وينبغي ألا ننسى موقف الإسلام من العبد الرقيق وكيف جعل منه أخاً بعد أن كان عبداً يُداس بالقدم.

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ).

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ).

( لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ).

وقد ضرب محمد عليه الصلاة والسلام المثل حينما تبنى عبداً رقيقاً هو زيد بن حارثة فأعتقه وجعل منه ابنه .. ثم زوّجه من الحرة سليلة البيت الشريف زينب بنت جحش.

كل هذا ليكسر هذه العنجهية والعصبية .. وليجعل من تحرير العبيد موقفاً يُقتَدى به .. وليقول بالفعل وبالمثال أن رسالته عتق الرقاب.

أما أن الرجال قوّامون على النساء فهي حقيقة في كل مكان في البلاد الإسلامية . وفي البلاد المسيحية . وفي البلاد التي لا تعرف إلهاً ولا ديناً.

في موسكو المُلحدة الحُكّام رجال من أيام لينين وستالين وخروشوف وبولجانين إلى اليوم ، وفي فرنسا الحُكّام رجال ، وفي لندن الحُكّام رجال ، وفي كل مكان من الأرض الرجال هم الذين يحكمون ويشرعون ويخترعون ، وجميع الأنبياء كانوا رجالاً ، وجميع الفلاسفة كانوا رجالاً ، حتى المُلّحنين _ مع أن التلحين صنعة خيال لا يحتاج إلى عضلات _ رجال ، وكما يقول العقاد ساخراً :

حتى صناعة الطهي والحياكة والموضة وهي تخصصات نسائية تفوّق فيها الرجال ثم انفردوا بها .

وهي ظواهر لا دخل للشريعة الإسلامية فيها .. فهي ظواهر عامة في كل بقاع الدنيا حيث لا تحكم شريعة إسلامية ولا يحكم قرآن.

إنما هي حقائق أن الرجل قوّام على المرأة بحكم الطبيعة واللياقة والحاكمية التي خصّه بها الخالق.

وإذا ظهرت وزيرة أو زعيمة أو حاكمة فإنها تكون الطرافة التي تُروىَ أخبارها والإستثناء الذي يؤكد القاعدة .

والإسلام لم يفعل أكثر من أنه سجل هذه القاعدة وهذا يفسر لنا بعد ذلك لماذا أعطى القرآن الرجل ضعف النصيب في الميراث .. لأنه هو الذي ينفق ولأنه هو الذي يعول .. ولأنه هو الذي يعمل.

كان موقف الإسلام من المرأة هو العدل.

وكانت سيرة النبي مع نسائه هي المحبة والحدب والحنان .. الذي يؤثر عنه قوله:

"حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة."

فذكر النساء مع الطيب والعطر والصلاة وهذا غاية الإعزاز ، وكان آخر ما قاله في آخر خطبة له قبل موته هو التوصية بالنساء.

وإذا كان الله قد اختار المرأة للبيت والرجل للشارع فلأنه عهد إلى الرجل أمانة التعمير والبناء والإنشاء بينما عهد إلى المرأة أمانة أكبر وأعظم هي تنشئة الإنسان نفسه.

وإنه من الأعظم لشأن المرأة أن تؤتَمن على هذه الأمانة.

فهل ظلم الإسلام النساء ؟!!

رابط هذا المقال على صفحة الفيس بوك من هنا

___________________

المقال الثالث


 

مقال / الـــ غ ــــر و ر .
________________
للدكتور . مصطفى محمود .  
___________________
من كتاب / يوميات نص الليل . 
____________________


أحياناً أشعر بأن الغرور فضيلة . . وأحياناً أسأل نفسي . .

ما هي الغريزة التي دفعت فناني الموضة إلى ابتكار ألوان لامعة متألقة مشعّة . . مثل الساتان واللامية وموضات مثل القبعة العالية . . والياقة العالية . . والذيل المنفوش . . وغطاء الرأس ذي الريشة .. والشعر المستعار . .
ما هي الرغبة المستترة التي كانت في ذهن خوفو حينما طلب أن تكون له مقبرة أضخم من كل المقابر في الدنيا . . مقبرة سامقة تخرق السماء ولا يقوى عاد من عوادي الزمان على هدمها . . ما هي الغريزة الخفية التي رفعت الهرم على أضلاعه الأربعة . . وأقعدته ثلاثة آلاف سنة يخرج لسانه للنجوم . .
ما هي الدوافع الخفية التي خلقت لنا أنتيكخانة مليئة بالتحف والتماثيل . . ولماذا كان تمثال رمسيس الذي نراه كل يوم بميدان باب الحديد بهذا الطول الشامخ . . ولماذا كان تابوت توت عنخ آمون من الذهب وصحافه من الذهب وجدران غرفاته من الذهب . .
ولماذا يتخذ السوفيت نجماً مثل جاجارين أو تيتوف . . ليضعوه على رأس الإعلان اليومي عن انتصارات الفضاء . . وكلما انطلق صارخ دقت وراءه الطبول وانطلقت أحاديث صحفية وصور وبرقيات . . ووقف خروشوف يقول . . عندي قنبلة قوتها مائة طن ديناميت تمحو أوربا في لحظة . . ووقف أيزنهاور يقول . . ها . . ها . . نحن نتجسس عليكم من سنوات وأنتم لا تعلمون .
ما الذي جعل ناطحة السحاب ترتفع مائة طابق في السماء . . وأرض الله واسعة . . ويمكن بناء مائة فيلا وفيلا فوقها .
لا يمكن أن تكون الضرورة الفنية وحدها هي التي قررت هذه الرغبة في الشموخ . . لا أصدق . .
إن الرغبة في الشموخ ذاتها أكثر أصالة من هذا الإلهام المعماري إن الإنسان طاووس مزهو . . فيه غرور . . غرور خلّاق بناّء ومخرّب مدمّر في الوقت نفسه . .
وهو في محاولته تحقيق هذا الغرور وتأكيده في البحث عن تبرير ومنطق وحجّة معقولة يتوسل بها إلى أغراضه . . وهو حينما يجد هذه الحجة يكون فناناًَ . . ومخترعاً . . وفرعوناً . . وصاحب دين ورسالة . . وعلماً من أعلام الإنسانية . . وحينما لا يجده . . لا يجد مفراً من أن يكون سفاحاً يقتل ويذبح ويسرق ولا يجد حجة يبرر بها جرائمه أمام ضحاياه . . وتنتهي به لا معقولية غروره إلى السجن والمشنقة .
الإنسان غرور يبحث عن معقولية . إنه نسر محلّق وصقر متعالٍ يبحث عن قمة يقف عليها . . وأرض يستوي عليها . . ويستوي عليها جبروته وعزّته وغروره . .
والقمم الوحيدة الممكنة التي يستطيع هذا النسر أن يتربع عليها هي قمم من الأهداف المجردة . . ومثل الخير والجمال . . والعدالة . . وكلها معقولات كلها في حاجة إلى عمارات من المنطق والحجج والبراهين .
وهو إذا استطاع أن يقيم هذه العمارة فإنه يستطيع أن يغطي غروره ويخفي رغبته الأصيلة في الطموح والتفوق بقناع جميل بهيج من الخير والجمال والحق وهو بهذا يفيد ويستفيد . . ويريح ويستريح من هذه الحكة الأبدية التي تأكل قلبه . .
وهو إذا لم يستطع . . يتحول إلى صقر مجنون . . ونسر بهلوان . . لا يجد قمة يقف عليها سوى نفسه . . فيقف على رأسه بالمقلوب . . رجلاه فوق . . ورأسه تحت . . وهو منظر مضحك لا يقنع أحداً . . ونهايته مستشفى المجاذيب .
لماذا تصر زوجتي على أن يكون أثاث بيتها أحسن وشقتها أعظم وزوجها أعظم زوج . . إن هذا الغرور يغيظني . . وعلى إيه ده كله ؟ !
ولكني أكتشف . . أني أيضاً . . وأحياناً . . أتمنى أن تكون زوجتي أحسن زوجة وبيتي أحسن بيت والكلمات التي أكتبها أجمل كلمات .
إن زوجتي بفطرتها لم تعبّر عن عاطفة غريبة عنها وعني . .
إنه الفرعون القديم . . يطلب أن تُبنى له أهرام أخرى . . من مليون صفحة . . ومن ألف طابق . . ومن مائة لقب ولقب . . ولا شبع أبداً . .
الكرباج الذي ينزل على ظهرها . . ينزل على ظهري أيضاً . . . كل ما هنالك أنها قد جسّدته أكثر وأكثر لعيني . .
وهكذا الإنسان دائماً . . رغبته في التفوق لا تشبع .
وهذه لذته . .
لا أصدق أن العباقرة يضحّون بشيء ولا أن العظماء المصلحين يفتدون بدمهم أحداً . .
إن هذه لذتهم . .
لذتهم المجد والتفوق . .
ولو أنهم أعطوا الحرية والأمان وخزائن الذهب وكمّمت أفواههم لكان هذا هو عذابهم الأكبر . . واستشهادهم الحقيقي .
إنهم نسور حقيقيون لا يطلبون إلا الأعالي ولو كان طريق هذه الأعالي هو الشوك والدم والعرق . . فإن هذه الأشواك هي السكر المعقود في أفواههم .
وما هو التاريخ ؟ . .
إنه أكداس من الغرور . . والكلمات الطنّانة .
إنه الكتاب الأبدي الذي يكتبه دائماً المتحيزون . . أصحاب المصلحة . . أما الآخرين فإنهم يموتون وتموت آراؤهم معهم .
الإنسان ذلك الطاووس .
إن كل فضائله لا تستطيع أن تخفي غروره عني لأني أرى هذا الغرور . . وأكثر . . أنا أحسه . . إنه حكّة في بدني . . لا عزاء لي من لعنتها الأبدية . . إلا أن أخلق بها شيئاً جميلاً .
أحاول أن أجملها في عيني . . وفي عين الناس بالبحث عن عذر جميل لبقائها . .
الأدب . .
الفن . .
الموسيقى . .
الشعر . .
إنها سيمفونية الألوهية والعظمة والمجد والشموخ التي يعزفها الإنسان لنفسه وللناس وينام على أفيونها كل ليلة .
إن هذا البرومينيوس المصلوب على غرائزه . . تنقر غربان المجد كبده . . لا يستطيع أن ينام إلا على هذه الأنغام الإلهية . . فحينما تصدر عنه هذه الأنغام يستريح . . ويشفى كبده الجريح ويلتئم . . ولكن كبده ما تلبث أن تعود فتتآكل من جديد حينما يفيق ويجد نفسه عبداً ذليلاً نحيلاً يرتجف . . يهزمه الموت والمرض والشيخوخة .
إن كبده يعود فيدمى . . يدميه الذل والمهانة . . والضعة . . فيصرخ ويبكي ويحنّ . . ويعود يتغنّى بترانيم الآيات السماوية . . والأنغام العلوية . . ليلتمس الراحة . . وينام من جديد .
والإنسان ليس مخيّراً في هذا الغرور . . إنه محكوم عليه بغروره .
إنها ضرورة بقائه تحتم عليه أن يدافع عن هذا البقاء بأن يوظّفه في شيء ويتفوّق به على نفسه .
إن رجليه تلحّان عليه بأن يمشي ويجري ويرقص . . وعيناه تلحّان عليه بأن يدقّق ويحملق ويتفحّص . . وأنفه تلحّ عليه بأن يتشمّم . . وعقله يسوقه رغماً عنه ليفكر .
إن وجوده ليس وجوداً معلقاً في الهواء . . ولكنه حركة واندفاع تلقائي لعدة وظائف . . ولا مفر له من طاعة هذه الوظائف وتحقيقها .
إنه لا يستطيع أن تكون له ساقان ويقف مشلولاً .
وهو إذا رفض أن يوظف ساقيه وذراعيه وعقله وقلبه . . وجلس مكانه متكاسلاً متثائباً ما يلبث أن يعاقب بالملل . . الملل الفظيع الخانق الذي يظل يخنقه ويجثم على أنفاسه حتى يدفع به إلى الإحساس التام بعدم الفائدة . . وعدم النفع . . وعدم الجدوى . . ثم إلى الانتحار .
وهكذا يحكم على نفسه بالموت . . لأنه رفض أن يريد الحياة .
الإنسان تحكمه ضرورة نموّ . . ضرورة تدفعه دائماً إلى فوق . . مثل الضرورة التي تدفع عصارة النبات من الأرض إلى فوق . .
ولا يوجد طريق عكسّي .
وراءنا لا يوجد شيء . . وكل من يتقهقر يقع في هذا اللاشيء ويموت.
الحياة صمام يدفع إلى اتجاه واحد . . النّمو والارتفاع . . والعلّو . . والتفوّق والتسلّق .
والعاطفة التي تحرس هذه الدوافع ، هي الغرور . . والطموح وعشق المجد . . وما نسميه أحياناً بالكرامة والعزّة والكبرياء . . والشرف .
إنها المسلّح الذي يحول دون سقوط هذا البنيان من الورق .
غرورنا ينفخ فينا فنطير مثل طيّارات الورق إلى فوق .
كلنا أطباق طائرة . . تتفاوت مجالاتنا بحسب ما فينا من وقود وغرور .
وهذا المقال نفسه غرور .
وهذه الثقة التي أكتب بها غرور .
وإن كان اعترافي بهذا الغرور يداويني بعض الشيء من الغرور الكاذب . . ويحفظ لي كفايتي من الغرور النافع .
هل أنت مغرور ؟ . .
أنصحك بقراءة المقال من الأول . .

 

رابط هذا المقال على صفحة الفيس بوك من هنا

___________________


المقال الرابع

 

مقال / الأصنام .
___________

للدكتور . مصطفى محمود .

 ___________________

 من كتاب / الروح والجسد .

 ___________________


نحن نقول إننا في عصر العلم و إننا خلفّنا الجاهلية وراءنا بأصنامها و أوثانها.. و لم يعد هناك من يعبد اللات و العزى و هبل و لا من يسجد لبعل.. انتهى الشرك إلى غير رجعة.

و لكني أقول بل نحن عبدة أوثان نسجد و نركع و نحرق البخور و نرتل التسابيح و الابتهالات في كل لحظة لأصنام لا حصر لها.

نحن في الجاهلية بعينها و لو تكلمنا بلغة الإلكترونات.. و لو مشينا على تراب القمر.

إنما اختلفت أسماء الأصنام.. و اختلفت صورها و نوعياتها.. و تسترت تحت ثياب الألفة.. و لكنها هي الأصنام بعينها.

ماذا يكون جسد المرأة العاري اليوم.. و هل هو إلا صنم رفعناه إلى مرتبة الإله المعبود المعشوق المرتجى.

لقد أصبحت صورة الجسم العاري ماركة مسجلة نروّج بها أي بضاعة.

صورة المرأة العارية هي تعويذة التاجر التي يرسمها على إعلانات السجائر و إعلانات الخمور و الصابون و البيرة و الكاميرات و الساعات و الحراير و الأقمشة حتى أدوية الزكام و شفرات الحلاقة و معاجين الأسنان.

و هي عامل مشترك في كل أفيشات السينما و المسرح.

و هي على أغلفة المجلات و على كروت المعايدة و في جميع الفاترينات بمناسبة و بدون مناسبة.

و هي على علب الشيكولاته و علب البونبون و زجاجات العطر و نجدها بدون سبب في إعلان لتروس الماكينات.

و نفاجأ بها في إعلان سيارات تفتح لنا الباب و في طائرات س م ع تقدم لنا طبقاً من الجاتوه مع ابتسامة.. و إلى جانب مطحنة بن تقدم لنا فنجاناً من القهوة.. بل و في إعلان عن أسياخ الحديد الصلب تدعونا لنبني بيتاً جديداً.. و هي دائماً عارية أو نصف عارية أو بالمايوه.

و كأنما لا وسيلة لجذب الانتباه إلا باستخدام هذا المعبود الجديد.. و لا طريقة لشد العين إلا بالتلويح بهذا الوثن.

إنه الذكر و الابتهال و التسبيح العصري تسفح فيه الدموع و تنشد الأشعار و ترتل المزامير و الأغاني و الرباعيات و السبعايات و تؤلف المسلسلات و الحلقات كل حلقة تشحذ الذهن و تثير شهية المستمع و المتفرج.

أما الصنم الثاني أو لعله المعبد أو الكاتدرائية العظمى أو جبل الأولمب الذي يتجمع فيه حشد الآلهة العصرية فهو فاترينة البضائع الإستهلاكية التي تتحلق حولها العيون مشدوهة مبهورة مسبحة تكاد تركع للثلاجة و الريكوردر و التليفيزيون و الساعة الذهبية و السوار الماسي. و الابن يقتل أباه و الأخ يسرق أخاه و الموظف يختلس و الصانع يغش و الصراف يزور و المزيف يزيف في سبيل هذه الفاترينة الوهاجة.. فاترينة الأحلام.. الكل يتهجدون و يسهرون الليل يصلون لها.. و كل شيء يفنى ما عدا وجهها ذي الجلال و الإكرام المضاء دائما بالنيون و الفلورسنت في حي المال و التجارة من كل مدينة.

أما الصنم الثالث فهو الهيكل.. هيكل الفكرة المجردة و النظرية و المذهب السياسي الذي يركع فيه المريد المتعصب. لا يرى حقا إلا ما تقوله بنود نظريته و لا يرى صدقا إلا ما يأمر به مذهبه فإذا سمع من يتكلم عن مذهب آخر فهو خائن مارق فاسق يستحق أن يحرق حيا.. و هو يعيش بفكر مقلوب و منطق معكوس فالإنسان عنده يجب أن يوضع في خدمة النظرية لا النظرية في خدمة الإنسان.

و هذا هو عابد الصنم الأجوف المجرد و عابد قصاصات الورق و الشعارات الطنانة الكاذبة.. و هو أحد مجانين هذا الزمان.

و صنم آخر شائع هو الدكتاتور و الحاكم المطلق و الطاغية المستبد الجالس على عرش السلطة و من حوله بلاط الهتافين و المصفقين و حملة المباخر و المجامر و المسبحين بالحمد و المنافقين و الكذابين و قارعي الطبول و نافخي الأبواق. تزفه الأناشيد و الأهازيج في كل مكان.. و يلقن الاطفال في مدارسهم.. إنه الرزاق و المنقذ و المعين الذي يطعمهم من جوع و يؤمنهم من خوف و يكسوهم من عري و أن عليهم أن يتوجهوا إليه بالتسبيح و التحميد كل صباح.. و أن عليهم أن يحفظوا كلماته و يعوا وصاياه و يلتمسوا رضاه.

و ربما كانت أشيع أصنام هذا العصر و أكثرها انتشارا هو صنم (( الذات)).. عبادة النفس.. و اتباع الهوى.

المرأة التي تعبد جمالها.. و الرجل الذي يعبد أناقته.. و الممثل الذي يفتتن بشهرته.. و الفنان العابد لفنه.. و البطل المبهور ببطولته.. و المتحدث اللبق الذكي المعجب بنفسه و بذكائه.. و نجم السهرة المزهو بشخصيته.. و صاحب الملايين الفرحان بملايينه.

و المال في أكثر الأحوال و في هذا العصر المادي صنم في ذاته تقدم له القرابين من دم الجميع.

و قد يختفي صنم (( الذات )) وراء صنم أكبر هو (( العصبية )) للعائلة أو القبيلة أو الطائفة أو العرق أو العنصر أو الملة و كلها أصنام.. و كلها عبوديات.. و كلها شرك.

و عابد الله لا يكون عبدا لله إلا إذا تحرر منها جميعا و أسلم قلبه و وجهه خالصا من جميع الشواغل و العلائق و التبعيات و المنازعات.

القلب لله (( بلا منازع )).. هذا هو الدين.

أما ما نحن فيه فهو جاهلية.. جاهلية العلم التي جاءت بأصنامها الجديدة و نصبت أوثانها العصرية و أقامتها مكان اللات و العزى و هبل و بعل و أقامت لها الهياكل و وظفت لها السدنة و الكهان و قدرت لها النذور و القرابين.

و لو أننا جلسنا إلى أنفسنا و صارحنا أنفسنا في لحظة صدق لوجد أكثرنا نفسه في إحدى خانات عباد الأصنام يسبح دون أن يدري لوثن من تلك الأثان الخفية التي أقامها عصر المادة في قلوب الناس.

رابط المقال من صفحة الفيس بوك من هنا

_________________

 

المقال الخامس

 

مقال / الصمت .
___________

للدكتور . مصطفى محمود .
___________________

من كتاب / الروح والجسد .
___________________
 
نحن نتبادل الكلمات والحروف والعبارات كوسائل للتعبير عن المعاني وكأدوات لكشف كوامن النفوس ونتصور أن الحروف يمكن أن تقوم بذاتها كبدائل للمشاعر ويمكن أن تدل بصدق على ذواتنا ومكنوناتنا.

والحقيقة أن الحروف تحجب ولا تكشف .. وتضلل ولاتدلل .. وتشوّه ولا توضح .. وهي أدوات التباس أكثر منها أدوات تحديد ..

يقول الحبيب لحبيبته : أحبك
وهو يقصد بذلك التعبير عن حالة وجدانية خاصة جداً وذاتية وجديدة عليه فلا يجد إلا كلمة هي صك مستهلك تهرأ من كثرة الاستعمال .. كلمة أصبحت ماركة مسجلة لأردأ أنواع البضائع .. كلمة حولّتها الأغاني المبتذلة والهزليات المسرحية إلى بالوعة أو في أحسن الأحوال إلى منشفة لتجفيف ما ينضخ من العرق في حالات فيسيولوجية عديدة ومتناقضة ، ولكنه لا يجد غيرها .

فإذا حاول أن يستخرج من قاموس الحروف ومعجم العبارات كلمات أخرى فانه لا يجد إلا المجاز والاستعارة والبيان والبديع وضرب الأمثلة .. فيقول لحبيبته أنه يحبها كما تحب الوردة ندى الفجر أو كما تحب ظلمة الليل شعاع الشمس أو كما تحب صغار العصافير أعشاشها .. وهو كلام فارغ آخر يترجم الحالة الخاصة الفريدة إلى سلسلة من البدائل المزورة ويحول الشعور البكر إلى ثرثرة جوفاء لا تدل على شيْء..

ولو أنه صمت لكان صمته أبلغ..

وللصمت المُفعَم بالشعور حُكم أقوى من حكم الكلمات ..

وله إشعاع وله قدرته الخاصة على الفعل والتأثير ..

والمحب الصامت يستطيع أن ينقل لغته وحبه إلى الآخر إذا كان الآخر على نفس المستوى من رهافة الحس وإذا كان هو الآخر قادراً على السمع بلا أذن والكلام بلا نطق .

والإنسان معجزة المخلوقات..
وهو ليس آلة كاتبة .. ولا اسطوانة ناطقة .
وهو أكثر من مجرد آليات جسدية ..

هو عقل وروح ووجدان ..

وذاته مستودع قوة وأسرار إلهية .
وهو يستطيع أن يتكلم بلا نطق .. ويسمع بلا أذن . ويرى بلا عيون.

ونحن نرى في الحلم بلا عيون ونسمع بلا آذان ونجري بلا سيقان..
وقد رأى المبصرون بعيون طه حسين ما لم يروا بعيونهم ..

وفي رؤى أبى العلاء وأشعاره ما لا تتطاول إليه عيون المبصرين أصحاب العيون ..

والحقائق العالية تقصر دون بلوغها الحروف والعيون والأذان ..

و إنما خُلِقَت الحروف للتعبير عن أشتات العالم المادي وجزئياته وهي مجرد رموز ومصطلحات ونظائر لما نرى حولنا من شجر وحصى ورمل وبحر وتلال ووديان وجبال .

أما عالمنا الداخلي . وسماواتنا الداخلية .. وسرائرنا العميقة .. فتقصر دونها الحروف ولا تصورها كلمات ..

وكلما كان شعورنا حميماً وكلما كان حبنا متغلغلاً في شغاف القلب مالكاً لناصية السر ساكناً لُب الفؤاد كلما عجز اللسان وتضعضعت الكلمات وتقطعت العبارات ..

والحقائق الإلهية أكثر استحالة على الألفاظ .

هنا الألفاظ تتحول إلى جلاميد صخر لا تصلح على الإطلاق لوصف ذات الله المطلقة .
والألفاظ في رحاب الله .. استار وحجب ..والكلمة حائل .. والعبارة عائق .. والاصطلاح عقبة .

هو هذا عالم السر والطلسم الذي يتم الاتصال فيه بالروح بدون مواصلات المادة وبدون أداة الكلمة ..

وهذا هو عالم المطلقات الذي لا تحلق إليه كلمات و لا تسمو إليه ألفاظ . ومعدن الحب الشفيف العالي هو من نفس معدن هذه المطلقات ولغته من لغتها .. فهو من خصائص الروح ... وهو في صميمه انعطاف روح قبل أن يكون انعطاف جسد وحينما تبلغ المشاعر إلى تلك المنطقة يسكت اللسان وتصبح اللغة صمتاً .

ولهذا أحب الصمت وأوثر الصمت كلما شعرت بهذا القرب الحميم نحو إنسان .. ذلك القرب الذي يتسلسل إلى الشغاف ويسكن الحنايا دونما صخب ودونما ضجيج ودونما اضطراب .

فهنا لا وجود للانفعال المبتذل الذي تتكلم عنه الأغاني .

ولا وجود للأوجاع والبكائيات ولا مكان لبلاهة قيس وأشعاره

ولو أني استعرت تلك الكلمات القديمة لأعبر بها عن ذلك القرب الحميم لكنت ثرثاراً أجوف أتكلم عن رجل آخر غيري ..
فهنا شعور جديد تماماً وخاص جداً وذاتي ..

هنا حضور مؤنس يشيع الدفء والبهجة الهادئة والإحساس بالمعية التي تطرد الوحشة والوحدة ..

هنا كل شيء هامس خافت بلا صوت وبلا صورة وبلا لفظ وبلا غرض وبلا مأرب ..

فما أبلغ الصمت وما أقدره على التعبير .

رابط هذا المقال على صفحتنا على الفيس بوك من هنا

0 التعليقات:

إرسال تعليق